مرصد سَدْبري للنيوترينو يحل لغزا عمره ثلاثون سنة، إذ يكشف أن
النيوترينوهات تغير نوعها وهي في طريقها من الشمس إلى الأرض
إن بناء مكشاف بارتفاع مبنى مؤلف من عشرة طوابق على عمق كيلومترين تحت الأرض هو طريقة غريبة لدراسة ظواهر شمسية. ومع ذلك، فقد تبين أن هذا الإنشاء هو المفتاح لحل لغز استمر بضعة عقود يتعلق بالسيرورات الفيزيائية التي تجري داخل الشمس. فمنذ عام 1920، اقترح الفيزيائي البريطاني أن عمليات الاندماج النووي هي مصدر طاقة الشمس. إلا أن الجهود، التي بذلت في الستينات من القرن الماضي، للتأكد من بعض التفاصيل الحاسمة لهذه الفكرة، واجهت عقبة كأداء تمثلت في أن التجارب التي صُممت لكشف ناتج جانبي يميز التفاعلات النووية الاندماجية التي تجري داخل الشمس ـ وهي الجسيمات الشبحية المسماة نيوترينوهات(1) neutrinos ـ لم تكشف إلا جزءا من العدد الذي كان متوقعا. ولم يتسن للفيزيائيين حل هذه المعضلة المحيرة إلا من خلال النتائج التي حصل عليها مرصد سدبري للنيوترينوهات (SNO) في أونتاريو عام 2002؛ وهكذا تأكد اقتراح تماما.

وكما هي الحال في جميع التجارب التي تجرى تحت الأرض والتي صُممت لدراسة الشمس، كان الهدف الرئيسي لمرصد سدبري الكشف عن النيوترينوهات التي يجري إنتاجها بأعداد هائلة في لب الشمس. إلا أن مرصد سدبري يختلف عن معظم المراصد التي تم بناؤها خلال العقود الثلاثة السابقة، لأنه مصمم لكشف النيوترينوهات باستخدام الماء الثقيل الذي تحوي نواة ذرات الهدروجين فيه نيوترونا(2) إضافيا يجعلها بذلك تؤلف دوتريوم deuterium. إن النيوترونات الإضافية تسمح لمرصد سدبري برصد النيوترينوهات الشمسية بطريقة لم يسبق اتباعها من قبل، وذلك بإحصاء جميع الأنواع أو «النكهات» flavors الثلاث من النيوترينوهات بصورة متساوية. وبهذا تمكن مرصد سدبري من إيضاح أن النقص الحاصل في عدد النيوترينوهات المكتشفة في تجارب سابقة لم يكن بسبب ضعف وسائل القياس أو سوء فهمنا لما يجري في الشمس، بل هو ناتج من خاصية جديدة للنيوترينوهات نفسها، جرى اكتشافها حديثا.

لعل من سخرية القدر أن يكشف تأكيد أفضل نظرية نعرفها عن الشمس العيب الأول للنموذج المعياري standard model لفيزياء الجسيمات، وهي أفضل نظرية تفسر سلوك المكونات الأكثر أساسية للمادة. إننا نتفهم الآن ما يجري في الشمس على نحو أفضل عما يجري في العالم الميكروي (المجهري).

المشكلة(**)
أجريت التجربة الأولى للنيوترينوهات الشمسية في منتصف ستينات القرن العشرين من قبل وزملائه من جامعة پنسلڤانيا بهدف تحقيق نصر علمي يؤكد نظرية الاندماج النووي لتوليد الطاقة الشمسية ويمثل بداية لحقل معرفي جديد يستخدم النيوترينوهات لدراسة الشمس. وقد كشفت تجربة ديڤز، التي أُجريت في منجم هومستيك للذهب قرب ليد بولاية ساوث داكوتا الجنوبية، عن النيوترينوهات بطريقة راديوكيميائية، فقد حوى المكشاف 615 طنا متريا من سائل التتراكلورواثيلين tetrachloroethylene (أو سائل «التنظيف الجاف»)، وعملت النيوترينوهات على تحويل ذرات الكلورين في هذا السائل إلى ذرات الإرگون. وبدلا من أن يلاحظ تحول ذرة واحدة من الكلورين إلى إرگون يوميا (وفقا لما تتنبأ به النظرية) فإنه لاحظ حصول هذه العملية مرة واحدة كل يومين ونصف، (حصل ديڤز عام 2002 بالاشتراك مع [من جامعة طوكيو] على جائزة نوبل لأبحاثهما الرائدة في فيزياء النيوترينوهات). وقد كشفت ثلاثون سنة لاحقة من الأبحاث، مستخدمة تقنيات مختلفة، عن نتائج مماثلة لتلك التي حصل عليها ديڤز، ففي جميع تلك التجارب كان عدد النيوترينوهات التي تصلنا من الشمس أقل كثيرا من العدد المتوقع، إذ تراوح بين ثلث العدد المتوقع وثلاثة أخماسه، وذلك حسب طاقات النيوترينوهات المدروسة. ونظرا لعدم فهم الفيزيائيين أسباب التفاوت الكبير بين القياسات والتنبؤات، كان عليهم أن يوقفوا مؤقتا متابعة هدفهم الأصلي ـ دراسة لب الشمس عن طريق رصد النيوترينوهات.
منذ الستينات من القرن الماضي بينت التجارب التي أجريت تحت الأرض أن عدد نيوترينوهات-الإلكترون الشمسية المرصودة أقل بكثير مما تتنبأ به النظريات. وقد عُرف هذا اللغز بمشكلة النيوترينوهات الشمسية.
في عام 2002 قام مرصد سدبري للنيوترينوهات SNO بحل هذه المشكلة، وذلك بالكشف عن أن كثيرا من نيوترينوهات-الإلكترون المتولدة داخل الشمس تغير نكهتها قبل وصولها إلى الأرض، مما تسبب في عدم اكتشافها في تجارب سابقة.
تؤكد نتائج مرصد سدبري أننا نفهم الآن كيفية توليد الطاقة الشمسية، وأن النيوترينوهات التي طالما عُرفت بأنها عديمة الكتلة هي في الواقع ذات كتل. ولذا يجب تعديل النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات لكي يستوعب هذا التغيير. وجدير بالذكر أن هذا النموذج ناجح بغرابة فيما عدا ذلك.

وفيما استمر التجريبيون في تجاربهم حول النيوترينوهات، قام النظريون بتحسين نماذجهم المستخدمة للتنبؤ بمعدل إنتاج النيوترينوهات الشمسية. إن تلك النماذج النظرية معقدة، لكنها تفترض فروضا قليلة هي: أن طاقة الشمس ناتجة من تفاعلات نووية تغير من وفرة العناصر element abundances، وأن هذه الطاقة تولد ضغطا نحو الخارج يوازن الجر الثقالي المتجه نحو الداخل، وأن الطاقة تنتقل بالفوتونات وبالحمل. وقد استمرت النماذج النظرية في التنبؤ ببيانات عن تدفق للنيوترينوهات بمعدلات عالية تفوق تلك التي تم قياسها فعلا. إلا أن توقعاتها الأخرى مثل طيف الهزات الشمسية helioseismologic التي تُرى على سطح الشمس جاءت متوافقة تماما مع الأرصاد.

عُرف هذا الفرق الغامض بين التنبؤات والقياسات بمشكلة النيوترينوهات الشمسية. وعلى الرغم من اعتقاد العديد من الفيزيائيين بأن الصعوبات التي لازمت وسائل الكشف عن النيوترينوهات من جهة وحساب معدل إنتاجها في الشمس من جهة ثانية هي سبب هذا التباين فإن خيارا ثالثا أصبح مقبولا على نطاق واسع على الرغم من مضامينه الثورية. فالنموذج المعياري لفيزياء الجسيمات يقول بوجود ثلاث نكهات عديمة الكتلة ومتميزة تماما الواحدة عن الأخرى للنيوترينوهات هي: نيوترينو-الإلكترون ونيوترينو-الميون ونيوترينو-التاو. إن التفاعلات الاندماجية في مركز الشمس لا يمكنها إنتاج سوى نيوترينوهات-الإلكترون. وقد تم تصميم تجربة ديڤز بهدف البحث عن هذا النوع من النيوترينوهات، ذلك أن نيوترينوهات ـ الإلكترون هي الوحيدة التي يمكنها تحويل الكلورين إلى أرگون عند الطاقات التي تمتلكها النيوترينوهات الشمسية. ولكن إذا فرضنا أن النموذج المعياري غير كامل، وأن نكهات  غير متميزة وإنما ممتزجة على نحو ما، فمن الممكن حينئذ أن يتحول نيوترينو-الإلكترون الآتي من الشمس إلى إحدى النكهتين الأخريين وإلا أن يتم بالتالي الكشف عنه.

إن الآلية المفضلة لتغير نكهة  هي ما يسمى تذبذب  (انظر الشكل في الصفحة 44) والتي تتطلب أن تكون نكهات  الثلاث (الإلكترون والميون والتاو) مؤلفة من مزائج من حالات  (يرمز لها 1، 2، 3) ذوات كتل مختلفة. يمكن عندئذ أن يتألف نيوترينو-الإلكترون من مزيج ما من الحالتين 1 و 2 فيما يتألف نيوترينو-الميون من مزيج مختلف من الحالتين أنفسهما. وتتنبأ بأن مثل هذه النيوترينوهات الممتزجة سوف تتذبذب بين نكهة وأخرى خلال رحلتها من الشمس إلى الأرض.

قدم تعاون السوپر-كميوكاندا عام 1998 أدلة قوية جدا على تذبذب النيوترينو، حيث أظهرت النتائج أن نيوترينوهات-الميون التي تولدها الأشعة الكونية في طبقات الجو العليا، كانت تختفي بنسبة تتوقف على المسافة التي تقطعها. وتفسر فرضية تذبذب  هذا الاختفاء تفسيرا جيدا جدا، وهي في هذه الحالة تتضمن تحول نيوترينوهات-الميون على الأرجح إلى نيوترينوهات-التاو. ويتم الكشف عن النيوترينوهات الأولى في طاقات الأشعة الكونية بوساطة السوپر-كميوكاندا، أما الثانية فتزوغ عن الكشف في معظم الأحيان(3).

ويمكن على نفس النحو تفسير النقص الحاصل في النيوترينوهات الشمسية. فوفقا لأحد السيناريوهات تتذبذب النيوترينوهات خلال رحلتها في الخلاء التي تستغرق ثماني دقائق من الشمس إلى الأرض. وفي نموذج آخر يزداد تذبذب النيوترينوهات أثناء رحلة في باطن الشمس خلال الثانيتين الأوليين، وهو مفعول ناتج من الطرائق المختلفة التي تتآثر بها كل نكهة نيوترينو مع المادة. ويتطلب كل سيناريو مدى معينا من المتغيرات المتعلقة بالنيوترينو ـ فروق الكتلة وكمية مزج النكهات. وعلى الرغم من الأدلة المتوافرة من السوپر-كميوكاندا وغيرها من التجارب، فإنه يظل بالإمكان أن النيوترينوهات كانت تختفي بسيرورة ما غير التذبذب. وحتى عام 2001 لم يكن لدى العلماء دليل مباشر على عملية تذبذب النيوترينوهات الشمسية، التي تم فيها كشف النيوترينوهات الشمسية المتحولة ذاتها.